قالت منظمة «صحفيات بلا قيود» إن قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل، منذ أكثر من عامين، انتهاك الكرامة الإنسانية للموتى الفلسطينيين بصورة ممنهجة، في سياق أعمال الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023.
وأوضحت المنظمة أن ممارسات الاحتلال تجاه جثامين الفلسطينيين تكشف عن سياسة متكاملة الأركان تستهدف الأحياء والموتى معاً.
وارتفعت حصيلة الفلسطينيين الذين قتلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ أكتوبر 2023 إلى 70,654 شهيدًا، من بينهم 386 فلسطينيًا قُتلوا منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب وفق الرؤية الأمريكية، حيز التنفيذ في 11 أكتوبر الماضي، وفقاً للتقارير الإحصائية الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة حتى تاريخ 13 ديسمبر الجاري.
وتضمنت السياسة الإسرائيلية أشكالًا متعددة من الانتهاكات المروعة التي امتدت إلى القتلى والموتى الفلسطينيين، من بينها: دفن عدد من الجثامين في حفر سطحية مجهولة، العبث بالمقابر واستخراج الموتى، احتجاز الجثامين لفترات طويلة وتسليمها في حالات تشويه وبلا ملامح وكذلك مسروقة الأعضاء، إضافة إلى حرمان العائلات الفلسطينية من حقها في التعرف على مصير أبنائها المفقودين، وهو ما يعمّق جريمة الإخفاء القسري حتى بعد جرائم القتل.
وأكدت صحفيات بلا قيود أن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق جثامين الفلسطينيين، تندرج ضمن نمط إجرامي منظم ينتهك أحكام القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الأربع، سواء فيما يتعلق بحقوق المدنيين الأحياء في الحماية والحياة الكريمة، أو بحقوق الأسرى والمعتقلين، وصولًا إلى الحق غير القابل للتصرف في الكرامة الإنسانية للموتى والمفقودين.
وفي هذا السياق، ترصد منظمة صحفيات بلا قيود أربعة أنماط رئيسية تكشف بوضوح سياسة سلطات الاحتلال تجاه الجثامين، وتشكل بمجموعها جرائم جسيمة ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي على النحو الآتي:
1ـ تجريف الجثث إلى قبور مجهولة
امتداد حرب الإبادة، وحتى بعد إعلان وقف إطلاق النار، عثر الفلسطينيون على جثامين أقاربهم في حفر سطحية خلفتها قوات الاحتلال، بعد أن كانت تمنع المدنيين والطواقم الطبية من الوصول إليها لساعات أو أيام، قبل تنفيذ إجراءات تُخفي هوية الضحايا وتطمس معها الأدلة على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها قوات الاحتلال في سياق أعمال الإبادة الجماعية.
بحسب التقارير التي اطلعت عليها صحفيات بلا قيود، لا يزال المدنيون وفرق الإسعاف يكتشفون حتى اليوم مقابر جماعية، خلفتها القوات الإسرائيلية، وتحتوي هذه المقابر على حفر سطحية دُفن فيها الضحايا الفلسطينيون، في ساحات عامة، وأراضٍ مفتوحة، وداخل محيط المستشفيات والمدارس والمنشآت الحيوية، إضافة إلى مواقع توزيع المساعدات، التي حددتها قوات الاحتلال لطالبي المساعدات المجوعين.
وأشارت المنظمة إلى أن تحقيقًا صحفيًا بثته شبكة CNN كشف بالأدلة المصورة قيام قوات الاحتلال بجرف عدد من جثامين طالبي المساعدات إلى قبور مجهولة قرب أحد المعابر.
ووثّق التحقيق إطلاق قوات الاحتلال النار على مدنيين جوعى أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات الإنسانية قرب مراكز التوزيع التي حددتها القوات الإسرائيلية، وتحديدًا في محيط معبر زيكيم. وكشفت الأدلة المرئية عن جثث مدفونة جزئيًا حول شاحنة مساعدات مقلوبة، وفي حالات أخرى تُركت الجثامين مكشوفة في العراء لتتحلل.
وبحسب شبكة CNN، فقد حصلت على مقاطع فيديو من موقع زيكيم تُظهر وجود كلاب ضالة في محيط المكان. بينما أكد أحد عناصر الدفاع المدني، أن هناك آثار على جثامين طالبي المساعدات الذين قتلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي، تلك الآثار تكشف أن الحيوانات التهمت أجزاءً منها.
2ـ العبث بالمقابر
تعرضت آلاف القبور في قطاع غزة للتجريف أو التخريب المباشر بفعل الدبابات والجرافات العسكرية الإسرائيلية، أو نتيجة القصف الجوي المكثف، كما لحقت أضرار جسيمة بأكثر من 15 مقبرة مركزية في مختلف مناطق القطاع، في سياق سياسة إسرائيلية ممنهجة.
وتنوعت أشكال الانتهاكات بين تسوية القبور بالأرض، وتحطيم شواهدها، وتحويل المقابر إلى مواقع تمركز عسكري لوحدات قوات الاحتلال، إضافة إلى شق طرق عسكرية داخلها. وتبرر سلطات الاحتلال هذه الانتهاكات بذريعة البحث عن أنفاق مزعومة أو عن رفات «رهائن»، رغم أن هذه المزاعم لا تستند إلى أي سند قانوني أو أدلة موثوقة، ولم تثبتها قوات الاحتلال إطلاقاً.
وبحسب تقارير حقوقية وشهادات ميدانية، أقدمت قوات الاحتلال على نبش قبور وإخراج رفات جثامين، وسرقة عدد من جثث المدنيين الذين قُتلوا خلال حرب الإبادة على قطاع غزة. كما أفاد عدد من أهالي القطاع أنهم عادوا إلى مواقع الدفن عقب انسحاب الآليات الإسرائيلية، ليجدوا المقابر مجرفة، والقبور مدمرة بعدما سرق الإسرائيليون عدداً من الجثامين.
وأكدت وزارة الأوقاف في قطاع غزة أن ما يجري في المقابر الفلسطينية يشكل «جريمة مركّبة تطال الأحياء والأموات معًا»، مشيرة إلى أن قوات الاحتلال ما تزال تسيطر على نحو ثلث المقابر في القطاع.
وأوضح مدير عام الوزارة أن مقبرة الشيخ رضوان، وهي مغلقة منذ أكثر من ثلاثة عقود، تعرضت للقصف المباشر، وتم نبش قبور فيها وإخراج عدد من الجثامين. كما كشف أن الوزارة تمتلك إحصاءات دقيقة لعشرات المقابر التي يمنع فيها الاحتلال الإسرائيلي الدفن كليًا، ما جعل مئات الجثامين للفلسطينيين الذين تقتلهم قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ أكتوبر 2023، تحت الأنقاض وفي الطرقات وحفر سطحية وأماكن مكشوفة، ما عرّضها للنهش والتحلل.
3ـ الجثامين المُسلّمة بأجساد منقوصة
منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، حيّز التنفيذ في أكتوبر الماضي، سلّمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي 345 جثمانًا من أبناء غزة. ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية في القطاع، لم يتمكن المختصون أو ذوو المفقودين من التعرّف إلا على 99 جثمانًا فقط، فيما لا تزال هوية بقية الضحايا مجهولة نتيجة التشويه التي لحقت بالجثامين وآثار التعذيب التي غيرت ملامح أجساد الضحايا المتحللة.
ورصدت صحفيات بلا قيود، تصريحات متطابقة لعدد من الكوادر المتخصصة، من بينهم المتحدث باسم الأدلة الجنائية، وأحد العاملين في الطب الشرعي، إضافة إلى مدير عام وزارة الصحة، أكدوا فيها أن كل جثمان من هذه الجثامين «يحتاج إلى لجنة تحقيق دولية مستقلة».
وأوضح الدكتور منير البرش، أن بعض الجثامين عليها ثار تنكيل ودهس بالمجنزرات، وأخرى أُعدمت ميدانياً بإطلاق النار من مسافة قريبة في الرأس أو الصدر، بينما وصلت بعض الجثامين بلا رؤوس أو مكبلة الأيدي ومعصوبة العينين، فيما أظهرت أخرى آثار تشريح دقيق بأدوات جراحية احترافية، ما يرجّح، تعرضها لعمليات سرقة أعضاء بشرية.
وأكد البرش، «شاهدنا صدوراً مفتوحة بعناية، وقد سُرقت منها القلوب والكبد والكلى وحتى القرنيات. هذه ليست المرة الأولى التي يمارس فيها الاحتلال مثل هذه الجرائم».
وأشارت صحفيات بلا قيود، بأنه لا تتوفر حتى اليوم معلومات دقيقة حول أعداد جثامين أبناء قطاع غزة الذين ما تزال سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحتجزهم. فمنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، اعتقلت قوات الاحتلال آلاف المدنيين الفلسطينيين، علاوة على أنه ما يزال آلاف الفلسطينيين ضمن المفقودين، وخاصة في إطار سياسة الإخفاء القسري التي تنتهجها إسرائيل.
وتؤكد منظمة صحفيات بلا قيود، استنادًا إلى شهادات المعتقلين السابقين إضافة إلى التقارير الطبية التي تصدرها وزارة الصحة في غزة، أن معاينة الجثامين التي سلّمتها سلطات الاحتلال عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تُظهر بوضوح مؤشرات على مقتل عدد كبير من الضحايا نتيجة التعذيب وسوء المعاملة.
4ـ مقابر الأرقام والثلاجات
تحتجز سلطات الاحتلال الإسرائيلي مئات الجثامين الفلسطينية، إضافة إلى جثامين من جنسيات عربية أخرى، ممن شاركوا في مقاومة الاحتلال خلال مراحل زمنية مختلفة. ويتم احتجاز هذه الجثامين في مدافن سرية تُعرف باسم «مقابر الأرقام» إضافة إلى احتجاز عدد آخر من الجثامين في ثلاجات حفظ الموتى.
ومقابر الأرقام هي مدافن بدائية ومعزولة، تُحدد بحجارة دون شواهد قبور، ويُثبت فوق كل قبر لوح معدني يحمل رقمًا فقط، دون اسم أو بيانات تعريفية. ويقابل كل رقم ملف خاص يتضمن المعلومات الشخصية والبيانات الكاملة الخاصة بصاحب الجثمان، تحتفظ به الجهات الأمنية الإسرائيلية، وتحجب هذه المعلومات عن ذوي الضحايا.
ولا تتوفر إحصائية نهائية ودقيقة بعدد الجثامين المحتجزة في مقابر الأرقام وثلاجات الاحتلال الاسرائيلي، نتيجة سياسة الإخفاء والتكتم المتعمدة. سنة 2008، أطلق مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان حملة وطنية شعبية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين.
وتهدف الحملة إلى إلزام حكومة الاحتلال الإسرائيلي بالإفراج عن جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب المحتجزة لديها في مقابر الأرقام وثلاجات حفظ الموتى، وتمكين ذويهم من تشييعهم ودفنهم وفق التقاليد الوطنية الفلسطينية والشعائر الدينية، وبما يضمن احترام كرامتهم الإنسانية والوطنية. كما تسعى الحملة إلى إلزام سلطات الاحتلال بالكشف عن مصير المفقودين الذين تنكر احتجازهم.
وبحسب آخر البيانات التي وفرتها الحملة الوطنية إلى منتصف ديسمبر الجاري، فإن عدد الجثامين المحتجزة لدى إسرائيل حالياً، في مقابر الأرقام والثلاجات نحو 770 جثمانًا، من بينهم 514 شهيدًا جرى احتجازهم منذ استئناف هذه السياسة عام 2015. وتشمل هذه الأرقام 256 جثمانًا محتجزًا في مقابر الأرقام، و10 شهيدات من النساء، و76 جثمانًا لأطفال تقل أعمارهم عن 18 عامًا.
جرائم مركبة
تؤكد منظمة صحفيات بلا قيود أن ما يجري في قطاع غزة، يعكس سياسة متعمدة تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين، الأحياء والأموات، في انتهاك صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف الأربع، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وتشكّل هذه الممارسات، بمجملها، اعتداءً مركّبًا على الحق في الحياة، والكرامة الإنسانية، وحقوق العائلات في معرفة مصير ذويها المفقودين.
وترى المنظمة أن جرائم «قتل المدنيين والإبقاء على جثامينهم في العراء وجرفها إلى حفر سطحية مجهولة، والعبث بالمقابر العامة، واستمرار احتجاز الجثامين، أو تسليم مفقودين ـ يفترض أن يكونوا أحياءـ تسليمهم جثثاً بأجساد مشوّهة ومنقوصة الأعضاء، وكذلك استمرار إخفاء عدد من الفلسطينيين في مقابر الأرقام والثلاجات» كل ذلك يُعد خرقًا جسيمًا لواجب احترام الموتى وضمان دفنهم بكرامة، كما تعده امتدادًا لجملة من الجرائم التي دأبت إسرائيل في ارتكابها، ومنها جريمة الإخفاء القسري.
وتطالب المنظمة بفتح تحقيق دولي مستقل وعاجل في جميع الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، وبهذا الصدد تطالب صحفيات بلا قيود، بتمكين بعثات دولية مستقلة، بما في ذلك فرق الطب الشرعي الدولية، من الوصول إلى مواقع الدفن والمقابر والمرافق ذات الصلة، للكشف عن الحقائق وتوثيق الانتهاكات وحفظ الأدلة.
وتدعو المنظمة، المجتمع الدولي بالضغط الفاعل على سلطات الاحتلال وإلزامها بالكشف الكامل عن بيانات المفقودين وأماكن احتجازهم، بما في ذلك بيانات الجثامين المحتجزة أو التي تم تسليمها دون تعريف، باعتبار ذلك حقًا أصيلًا تكفله القوانين الدولية واتفاقيات حقوق الإنسان.
وتجدد صحفيات بلا قيود، مطالبها بتوفير الحماية الدولية للمدنيين في قطاع غزة، ومحاسبة جميع المسؤولين والمنفذين والمتورطين في ارتكاب الجرائم المروعة بحق الفلسطينيين، وتؤكد على أن احترام الكرامة الإنسانية لا ينتهي بالموت، وأن العدالة للضحايا تبدأ بمحاسبة جميع المسؤولين والمنفذين والمتورطين في ارتكاب الجرائم المروعة، حمايةً لحقوق الإنسان، وصونًا للسلم والأمن الدوليين.

Ar
En
